الإشارة الأولى اللامبالاة:
يقع فئام من الناس في الشرك ظنا منهم أنهم على التوحيد الخالص ، لجهلهم به وبأن ما هم عليه يوجب الخلود في عذاب جهنم ،إن لم يكونوا ممن يعذرهم الله بجهلهم أو أن الله تعالى يتداركهم برحمته فييسر لهم من يعلمهم التوحيد ويبين لهم أنواع الشرك ، ويشكو آخرون من الشعور بالرياء و ضعف الإخلاص بل ربما تجد الواحد منهم يعمل العمل وهو لايدري ما النية فيه و يجهل هل عمله لله أم لغيره ومع هذا ، فلا يريد أحد من هؤلاء أو أولئك أن يكلف نفسه عناء البحث عن أسباب هذا الضعف ، وكيفية علاجه ولا أن يسأل عالما فضلا عن أن يقرأ ولو كتابا واحدا في الإخلاص وتوحيد العزيز الحميد !!، وهذا الأمر يؤرق في الحقيقة ، لماذا هذه اللامبالاة، على الرغم من العلم بخطر الشرك و خطر الرياء وأنه نوع شرك ؟!! .. لماذا هذه اللامبالاة ، مع العلم بما للشرك من المضار الدنيوية و الأخروية وأنه رجز و نجاسة وقذارة وظلم وظلمات ، يتعبد المخلوق للمخلوق و يحبط العمل ،ويضيع ثمرة العمر ، ويجعلها هباء منثورا ، يعسر الأمور،و يضنك العيش و يجلب المخاوف وأنواع العقوبات ويجر أصناف المصيبات، علامة الضلال و الخذلان و عدم التوفيق ، وعنوان الشقاوة ، ينزل بصاحبه عذاب الدنيا ويجعله متوعدا بالعذاب الأليم في نار جهنم في الآخرة؟!! ، ..لماذا هذه اللامبالاة ،على الرغم من العلم بما لإخلاص العبادة لله من فضائل ومنافع دنيوية وأخروية وأنه طهارة وعدل ونور ، يخلص العبد من رق المخلوقين ويجعله من الأحرار إلا من العبودية للعزيز الغفار وهذا هو العز الحقيقي؟!! ، لماذا هذه اللامبالاة .. مع العلم بأن الإخلاص ،ييسر الطاعات و يكبر الصغير ويكثر القليل و يضاعف الأجور والحسنات ويبار ك الأعمار ، و أن قبول الأعمال وكمالها ،إن وافقت شرعة محمد عليه الصلاة والسلام متوقف عليه ، وعدم دخول النار أو عدم الخلود فيها راجع بعد فضل الله إليه ، وانه سبب لتفريج الكربات وتكفير الذنوب ومغفرة الذنوب و الخطايا والزلات وتخفيف المصائب ودفع الشرور والعقوبات وأنه سبب حصول الغلبة والظفر للمرسلين وأتباعهم على الكفرة والمشركين بل ووعد أتباع المرسلين إن هم قاموا به وحققوه ؛ بالنصر والاستخلاف والعزة والأمن التمكين عبر الدهور وعلى مر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها و أنه سبب للأمن التام و للهدى الكامل في الأولى والآخرة وأنه جنة الدارين وسر النعيم الأبدي!!...
لما ذا هذا التعامل مع قضية الإخلاص التي هذه بعض فضائلها و بعض مضار وعواقب تركها والتلبس بضدها ، التي قد تكاثرت شواهد ها في الكتاب والسنة والواقع ، فلماذا التعامل مع قضية هذا عظم شأنها باللامبالاة و كأنها قضية ثانوية هامشية وكأن المسألة ليست مسألة جنة أو نار ؟!!. ولاحول ولا قوة إلا بالله الواحد القهار !!
وقبل أن أشير بعض الإشارات من كلام بعض علمائنا رحمهم الله في طريق الإخلاص أجيب عن تساؤلي فأقول:
إن من أسباب اللامبالاة هذه ، ما يلي :
1. نقص التصور ، وإن شئت فسمه سطحية التفكير أو ضعف العقل والبصيرة...
فهو الذي يؤدي عدم الدراسة الوافية و التعمق في البحث عن أسباب المشكلة وطرق علاجها ، وتؤدي إلى ترك الحرص على الإخلاص بل على تحصيل المنافع وطلبها أو دفع المضار والهرب منها في أي أمر كان سواء من أمور الدين و الاستجابة لنداء الحق رب العلمين ، أو أمور الدنيا ، يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب الإيمان ( لأن تصور المخوف يوجب الهرب منه وتصور المحبوب يوجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا ويطلب هذا دل على أنه لم يتصوره تصور ا تاما). ، ومما يعين على تمام التصور ما يلقيه الله في قلب العبد من الإحسان وعبادة الله كأنه يراه،و كذلك النظر والـتأمل في أدلة التوحيد ، وسيأتي ذكرها إن شاء الله.
2.انشغال القلب بأمور أخرى:
فإن لإلقاء السمع مجردا عن حضور القلب وانشغال القلب بأمور أخرى أثرٌ كبيرٌ في عدم طلب الإخلاص بل في عدم الاستجابة للأوامر والنواهي واللامبالاة ولهذا قال تعالى{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } ، يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب الإيمان أيضا( وكذلك إذا أخبر بما هو محبوب له ومكروه بل عرف صدقه لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به فهذا لا يتحرك لا للهرب ولا للطلب). فلابد من التخلية قبل التحلية ، تخلية القلب من الشهوات المحرمة والشبهات المضلة حتى يصير لديه الاستعداد ويستجيب للتحلية بأنوار الإيمان والإخلاص إذ المشغول لا يشغل.
3.أن يكون الإخلاص غير محبوب والشرك غير مكروه لمن أخبر بفضائل الأول ومضار الثاني فلا يتحرك للهرب ولا للطلب ، وهذا يتصور من غير المسلم الذي لا يعرف فضائل التوحيد ومضار الشرك ولا يعرف أنه ما خلق إلا للعبادة أصلا ، أو من مسلم لم يميز الشرك من التوحيد وأما من يميز لا يتصور منه ذلك أبدا قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب الإيمان : (وكذلك إذا لم يكن المتصور محبوبا ولا مكروها فإن الإنسان يصدق بما هو مخوف على غيره ومحبوب لغيره ولا يورثه ذلك هربا ولا طلبا).
4. ضعف الإيمان ، فيؤثر بسب ذلك ماهو فيه من شهوات ولذة عاجلة على طلب أسباب اللذة الآجلة.
قال ابن القيم في الفوائد ( فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة ، إلا إذا تبين له فضل الآجل على الآجل فتقوى بذلك رغبته في الأعلى الأفضل فإذا آثر الفاني الناقص ،كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له وإما لعد م رغبته في الأفضل وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة )
فما دام أن القضية بهذه الخطورة وجب على العبد أن يشعر بهذا الخطر وأن يخاف من الشرك أعظم الخوف ،وأن يسعى في الفرار منه ، ومن طرقه ووسائله وأسبابه ويسأل الله العافية منه.. وأن يجتهد في معرفة أنواع الشرك للتطهر منها وكما قيل : اعرف الشر لا للشر لكن لتوقيه والذي لا يعرف الشر يقع فيه.
ولابد من وجود الرغبة الصادقة في معرفة ماهو الإخلاص لأنه سبيل النجاة ووجود الرغبة الصادقة في دفع أسباب هذه اللامبالاة.
الإشارة الثانية : ما هو الإخلاص؟؟
يقول ابن سعدي رحمه الله
واعلم أن الإخلاص لله أساس الدين وروح التوحيد والعبادة ،وهو أن يقصد العبد بعمله كله وجه الله وثوابه وفضله ، فيقوم بأصول الإيمان الستة وشرائع الإسلام الخمس ،وحقائق الإيمان التي هي الإحسان ، وبحقوق الله وحقوق عباده ، مكملا لها، قاصدا بها وجه الله والدار الآخرة لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا رياسة ولا دنيا وبذلك يتم إيمانه وتوحيده).
الإشارة الثالثة: و بضدها تتميز الأشياء..
الشرك في توحيد الإلهية والعبادة ينافي التوحيد كل المنافاة وهو نوعان شرك أكبر جلي وشرك أصغر خفي .
قال السعدي في القول السديد( فأما الشرك الأكبر فهو أن تجعل لله ندا، يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه أو يرجوه أو يحبه كحب الله أو يصرف له نوعا من أنواع العبادة فهذا الشرك لا يبقى مع صاحبه من التوحيد شيء وهذا المشرك الذي حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ولا فرق في هذا بين أن يسمي تلك العبادة التي صرفها لغير الله عبادة أو يسميها توسلا أو يسميها بغير ذلك من الأسماء ،فكل ذلك شرك أكبر لأن العبرة بحقائق الأشياء ومعانيها دون ألفاظها وعباراتها).
ومن صور الشرك الأكبر ما يفعله من يدعو الأنبياء كعيسى و عزير عليهما السلام وغيرهما أو يدعو الأولياء والصالحين ليدفعوا عنهم الضر أو ليجلبوا لهم النفع أو يتوسلوا بهم ليقربوهم من الله أو تشفع لهم عنده وهذا هو نفسه عين ما كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا من الله زلفى ،وما كانت قريش تعتقد أن هذه الأصنام تخلق أو ترزق أو تملك شيئا ، كما حكى الله عنهم ذلك في القرآن ، ومن صوره وأشكاله ،عبادة الأحجار أو الأشجار أو الشمس أو القمر أو الحيوانات أو الشياطين أو جعل غير الله ندا له في الربوبية والرضى بشرعه أو التحاكم إليه أو غير ذلك.
وأما الشرك الأصغر :فهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة وكالحلف بغير الله ويسير الرياء و غير ذلك،
وقال أيضا في القول السديد( ومن أعظم ما ينافي هذا - يعني الإخلاص- مراءاة الناس ، والعمل لأجل مدحهم وتعظيمهم أو لأجل الدنيا ، فهذا يقدح في الإخلاص والتوحيد) وأعجب شيء أن يعمل الإنسان لمخلوق من تراب ويذر معاملة رب الأرباب قال يحيى بن معاذ "عجبت من ثلاث: رجل يرائي بعمله مخلوقا مثله ويترك أن يعمل لله ، ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه فلا يقرضه منه شيئا ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم ،والله يدعوه إلى صحبته ومودته".
الإشارة الرابعة متى يكون العمل رياء؟؟
ويذكر السعدي أيضا تفصيلا رائعا في القضية فيقول رحمه الله ( واعلم أن الرياء فيه تفصيل :
1.فإن كان الحامل للعبد على العمل قصد مراءاة الناس ،واستمر على هذا القصد الفاسد فعمله حابط ، وهو شرك أصغر ويخشى أن يتذرع به إلى الشرك الأكبر .
2.وإن كان الحامل على العمل إرادة وجه الله مع إرادة مراءاة الناس ،ولم يقلع عن الرياء بعلمه فظا هر النصوص أيضا بطلان هذا العمل .
3 .وإن كان الحامل للعبد على العمل وجه الله وحده ولكن عرض الرياء في أثناء عمله فإن دفعه و خلص إخلاصه لله لم يضره وإن ساكنه واطمئن إليه نقص العمل وحصل من صاحبه من ضعف الإيمان والإخلاص بحسب ما قام في قلبه من الرياء وتقاوم العمل لله وما خالطه من شائبة الرياء .
واما العمل لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها :
1 .فإن كانت إرادة العبد كلها لهذا المقصد ، ولم يكن له إرادة لوجه الله والدار الآخرة ، فهذا ليس له في الآخرة من نصيب .
وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن ، فإن المؤمن ولو كان ضعيف الإيمان ، لابد أن يريد الله والدار الآخرة .
2 .وأما من عمل العمل لوجه الله ولأجل الدنيا والقصدان متساويان أو متقاربان، فهذا وإن كان مؤمنا فإنه ناقص الإيمان والتوحيد والإخلاص ، وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص .
3 .وأما من عمل لله وحده وأخلص في عمله إخلاصا تاما ،ولكنه يأخذ على عمله جعلا ومعلوما ، يستعين به على العمل والدين ، كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير ، وكالمجاهد الذي يترتب على جهاده غنيمة أو رزق ، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها ، فهذا لايضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده ، لكونه لم يرد بعمله الدنيا ، وإنما أراد الدين وقصد أن يكون ما حصل له معينا على قيام الدين.
ولهذا جعل الله في الأموال الشرعية ، كالزكوات وأموال الفيء وغيرها جزءاً كبيراً لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة ، كما قد عرف تفاصيل ذلك.
فهذا التفصيل يبين لك حكم هذه المسالة الكبيرة الشأن ،ويوجب لك أن تنزل الأمور منازلها والله أعلم)
الإشارة الخامسة كيف أتطهر من الشرك ؟..(خمسة أسباب معينة)
1.توحيد الربوبية،سلم للإخلاص فهو يستلزم توحيد الألوهية :
فثبوت القدم في توحيد الربوبية يحقق للعبد مشهد إياك نعبد قال ابن القيم رحمه الله (فيثبت قدم العبد في توحيد الربوبية ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع والعطاء والمنع ، والهدى والضلال ، و السعادة والشقاوة ، كل ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء ، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه ، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه ، وأن أصح القلوب وأسلمها وأقومها وأرقها وأصفاها ،و أشدها وألينها من اتخذه وحده إلها ومعبودا ، فكان أحب إليه من كل ما سواه و أرجى له من كل ما سواه ،فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب ،فتنساق المحاب تبعا لها كما ينساق الجيش تبعا للسلطان ، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات ، فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه ، و يتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء ، فينساق كل رجاء تبعا لرجائه فهذا علامة توحيد الإلهية في القلب) .
2.ليس الأمر بالتمني !! ولكن بالاستعانة بالله وكمال التعلق به والمجاهدة والعلاج الشديد ..
يقول العلامة السعدي رحمه الله في القول السديد
الرياء آفة عظيمة ،ويحتاج إلى علاج شديد ،وتمرين النفس على الإخلاص ، ومجاهدتها في مدافعة خواطر الرياء والأغراض الضارة ، والاستعانة بالله على دفعها لعل الله يخلص إيمان العبد ويحقق توحيده .
وقال فيه أيضا (وذلك بكمال التعلق بالله ؛ تألها وإنابة وخوفا ورجاء وطمعا وقصدا في مرضاته وثوابه في كل ما يفعله العبد وما يتركه من الأمور الظاهرة والباطنة ، فإن الإخلاص بطبيعته يدفع الشرك الأكبر والأصغر وكل من وقع منه نوع من الشرك فلضعف إخلاصه)
3 . وبتذكر الآخرة قال تعالى {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار}
داوم على تذكر الموت وتذكر دخول القبر وتصور لقاء الله و الدار الآخرة ، تجد ذلك أعظم معين على إخلاص العبادة لله وأعظم دافع إليه وانظر إلى قوله تعالى { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ... إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ... وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} [الآيات 45،46 سورة ص]
قال ابن القيم في الفوائد
(فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها ،وفي الدنيا وخستها وفنائها، أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا . وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت ، أورثه ذلك الجد والإجتهاد ، وبذل الوسع في اغتنام الوقت)
4.وبالمقارنة بين المصالح والمفاسد:
يشير إلى ذلك شيخنا العثيمين رحمه الله و غفر له يقول في شرحه رياض الصالحين:
(الشرك طهر قلبك منه ، كيف أطهر نفسي منه؟ أطهر قلبي بأن أقول لنفسي إن الناس لا ينفعونني إن عصيت الله ولا ينقذونني من العقاب وإن أطعت الله لم يجلبوا لي الثواب .
فالذي يجلب الثواب ويدفع العقاب هو الله ، إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشرك بالله عز وجل لماذا تنوي بعبادتك أن تتقرب إلى الخلق ؟ ولهذا من تقرب إلى الخلق بما يتقرب به إلى الله ابتعد الله عنه وابتعد عنه الخلق يعني لا يزيده تقربه إلى الخلق بما يقربه إلى الله إلا بعدا من الله ومن الخلق؛ ّّّّّّلأن الله إذا رضي عنك أرضى عنك الناس وإذا سخط عليك نعوذ بالله من سخطه ومن عقابه !!.)
وإذا تذكر العبد عند أي عمل يحبه الله ويرضاه ، أن الله ينظر إليه ،وأنه كأنه يرى الله ، وجمع إلى ذلك تذكر أن عمله هذا عبادة تزيده قربا من الله وأن الله يحب منه فعلها و يرضى عليه ويفرح بها وتذكر الأجر على الإخلاص فيها ، تذكر هذه المصالح وأنها ستفوته إن لم يخلص أو عصا الله بعد القيام بها واستشعر المفاسد التي تحصل له بفواتها واستشعر مع ذلك حبه لله لأنه المنعم عليه بكل خير والدافع لكل شر استحى أن يرائي في عمله واستحى أن يجعل الله أهون الناظرين إليه والله ينظر إليه.
5 .وبالصبر واليقين و ذبح الطمع والزهد في الثناء والذي يسهلهما..
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله
(لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع في ما عند الله إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت ، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص ، فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة. فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص...
فإن قلت وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح ؟
قلت :أما ذبح الطمع ، فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه ، لا يملكها غيره ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه.
وأما الزهد في الثناء والمدح ، فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده ، كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم :إن مدحي زين وذمي شين، فقال ذاك الله عز وجل .
فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لايشينك ذمه،وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه . ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين ، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر بغير مركب ، قال تعالى :{وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقون} [ السجدة 24] .
ولما كان الصبر واليقين من أعظم أسباب تحقيق الإخلاص لله رب العالمين بعد دعاء الله والاستعانة به واللجوء والافتقار إليه و كان الصبر بعد عون الله يحصل بالتصبر و باليقين على سرعة انقضاء الدنيا وانه [ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب] وأن الشجاعة صبر ساعة ، وأما اليقين فيحصل بعد بتوفيق الله بالـتأمل في الآيات الكونية والشرعية ، و ببقية الأدلة العقلية والنقلية الدالة على استحقاق الله للعبودية ، تلك الأدلة الموجبة لتوحيد الله عز وجل التي أعادها الله وأبداها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فسأجعلها بحول الله موضوع إشارة أخرى خامسة قريبا إن شاء الله تعالى والله الموفق والمعين والحمد لله رب العالمين.