سيظل اسمنا مكتوباً في سجل الغافلين الفارغين ما دمنا لا نعطي للدعوة إلا فضول أوقاتنا ، وما دمنا لا نشغفها حبًا ولا نتخذها حرفة .
إن الداعية المسلم لا يملك نفسه حتى يسوغ له أن يمنح نفسه إجازة ، وإنما هو – كما شبهه بعض الأفاضل : ( وقف لله تعالى )
. تماماً كنسخة من كتاب نافع حين تُوقَف لله تعالى وتوضع في مسجد من مساجد الله ، فكل داعية موقوف لله ، في جزء من أجزاء دعوة الله .
وإن فضول الأوقات ليست قليلة ومحدودة فحسب ، وإنما هي أردأ ساعات اليوم ، حيث يكون فيها الذهن والجسم متعبين أشد التعب .
وما تجاوز الشيخ المودودي " رحمه الله " أعراف أجيال الدعاة حين صارحنا في تذكرته القيِّمة وقال
إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نارٌ متقدة ٌ تكون في ضرامها – على الأقل – مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب ، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق حياة أولاده ، ولا تزال تقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي ) .
ولم يتجاوز حين كرر وقال ثانية : ( اسمحوا لي أن أقول لكم إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم وآبائكم وأمهاتكم فإنكم لا بد أن تبوءوا بالفشل الذريع ، بفشل لا تتجرأ بعده أجيالنا القادمة على أن تتفكر في القيام بحركة مثل هذه إلى مدة غير وجيزة من الزمان ، عليكم أن تستعرضوا قوتكم القلبية والأخلاقية قبل أن تهموا بالخطوات الكبيرة ) .
إن من يطالب الآن بإلغاء الراحة فإنه إنما يستند إلى مادة واضحة في قانون الدعوة والدعاة سَنَّها عمرُ الفاروق رضي الله عنه تنطق بصراحة أنَّ :
( الراحة للرجال .. غفلة )
وجددها إمام المحدثين شُعبة بن الحجَّاج البصري فقال : ( لا تقعدوا فراغاً فإنَّ الموت يطلبكم ) .
ذلك أن من أراد الراحـة والسكون فإن الموت والقبر يزودانه منهما حتى يشبع .
وكأننا والله قد أسرفنا في الغفلة ، ولا بد من عزيمة نفطم بها نفوسنا عن اللهو .
إننا حين نثبت جواز التمتع بالمباحات فلكي يعلم مَن نخاطبه أننا لا ندعوا إلى مثل الطريقة المبتدعة التي كان عليها بعض الزهاد من الجوع والعري والرهبانية ، وإلا فلا يزال جواب ابن الجوزي يصلح جواباً لنا حين سأله سائل : أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي ؟ فقال : " عند نفسك من الغفلة ما يكفيها "
فإن اعترض معترض أتيناه بمثل كلام ابن القيم حيث يقول : " لا بد من سِــنة الغفلة ، ورقاد الغفلة . . ولكن كن خفيف النوم "
فنحن لا ننكر ما في المعنى الحرفي لإطلاقات مَنْ عاب الراحة من إرهاق ، وإنما نريد – كما أرادوا – تقليلها إلى أدنى ما يكفي الجسم ، كل حسب صحته وظروفه ، خاصة وأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية ، كما يجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لوقته أكثر مما كان يجب على السلف .
فكن خفيف النوم أيها الداعية المسلم لتحصل لك هذه الهمة العظيمة .
وانتبه من رقدة الغفـ................ـلة.. فالعمر قليل
واطرح سوف وحتى.................فهمـا داء دخيـل
وعَبَّر الصالحون عن هذه المعاني أحياناً بلفظ آخر سموه : حفظ الوقت ، أو مراعاة الوقت .
فيرى الإمام البنا أن : " من عرف حق الوقت فقد أدرك قيمة الحياة ، فالوقت هو الحياة " .
أو كما قال
إنما الوقت هو الحياة ).
يخالف بذلك قول الماديين : الوقت من ذهب .
وكان رحمه الله يحب أن يتجاوز الداعية معرفة حق وقت يومه إلى التخطيط لصـرف وقت غده ، فينوي لكل ساعـة نوع خير .. " وينام على أفضل العزائم " .
وترك الفراغ .. والاستيقاظ من رقدة الغفلة : معناهما التعب ، ثم التعب ، واستفراغ الوُسع في العمل لله : نطق بذلك الإمام الشافعي ، ونفى أن تصح مروءة داعية يطلب الراحة .. فقال : " طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات ، فإن أحدهم لم يزل تَعبان في كل زمان " .
ولما سُئل أحد الزهاد عن سبيل المسلم ليكون من صفوة الله .. فقال : " إذا خلع الراحة .. وأعطى المجهود في الطاعة " .
فالداعية الصادق يخلع الراحة ، ويعود لا يعرفها وإنما يبذل المجهود من نفسه ، ويستفرغ كل طاقته في خدمة الدعوة ...
الدعوة إلى الله تعالى..